Advertise Here

ALL BOOKS

- Another Blogger Blog's

Your Ad Here
لقد كان في قصصهم عبرة by Faleh Zahrawi فالح الزهراوي.
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله , وأشهد أن لا إله إلا الله هو البر الرؤوف الرحيم لا إله إلا هو الرحمن الرحيم , وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، خيرته من خلقه ، صفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد ..
فنحمد الله أهل الحمد والثناء ، لا نحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه ، فهو جل وعلا أحق من حُمِدَ ، كما أنه سبحانه وبحمده أحق من ذُكِرَ. نحمده على نعمه الكثيرة التي من أجلِّها وأعظمها هذا الكتاب المبين الذي جعله الله تعالى من أعظم آيات الأنبياء، هذا القرآن الذي فيه خبر من قبلنا ، وفيه فصل ما بيننا ، وفيه حكم ما اختلف فيه المختلفون، فيه الهدى والنور، هو الضياء الذي تشرق به القلوب، هو النور الذي تُسفر به الدنيا، جعله الله تعالى حاويًا لكثيرٍ من الخير الذي فيه صلاح الدنيا واستقامة الآخرة .
أيها الأحباب: إنَّ كتاب الله تعالى فيه من القصص والأخبار ما وصفه الله تعالى في قوله : ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ (1). هذا القرآن تضمن قصصاً عظيمة من الأمم السابقة فيها عبرة وعظة، فيها وعدٌ ووعيد، فيها ادِّكارٌ لمن أراد عبرةً واتعاظاً، إنه كتابٌ مجيد ، إنه كتاب ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (2) .
أيها الأحباب:هذا الكتاب حوى قصص أئمة وعظماء من بني آدم، على رأسهم الرسل ثم الأنبياء ثم الصالحون , وهذه القصص لها فوائد كبيرة، من أعظم فوائدها ما قال الله جل وعلا وقص في كتابه حيث قال : ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (3).
إنَّ هذا القصص فيه بيان شيء كثير، فيه تفصيل هذا الكتاب وبيان ما فيه من الأسرار والحكم، فيه هدى ورحمة ، لكن هذه الرحمة وهذا الهدى إنما هو لقوم يؤمنون به ويعظمونه، يقفون عند آياته، يتدبرون معانيه كما قال الله جل وعلا : ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾(1). إنَّ من أعظم قصص هذا القرآن التي فيها تقرير حق الله تعالى , وبيان ما له جل وعلا على عباده من الحقوق تلك القصة العظيمة : قصة إمام الحنفاء، ، فقد ذكرها الله جل وعلا في مواضع عديدة من كتابه الحكيم، وهي قصةٌقصة إبراهيم تضمنت بيانًا وتوضيحًا، مجادلةً ومُحاجّة ومناقشة لقوم كفروا بالله جل وعلا، اتخذوا من دونه آلهة، عبدوا سواه سبحانه وبحمده , وقد تكرر ذكر هذه القصة على ألوان متعددة في كلام الله جل وعلا وفي كتابه الحكيم، من ذلك ما ذكره الله جل وعلا في سورة الصافات في خبر مُحاجة إبراهيم ودعوته لأبيه وقومه، استمع إلى هذه الآيات المباركات وبين قومه، يقول الله جل وعلا : ﴿إِذْالتي تضمنت شيئًا مما جرى بين إبراهيم الذي قالقَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ (2). هذا خطاب إبراهيم الله تعالى فيه : ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً يقول هذه الكلمات في توجيه قومهوَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(3). إبراهيم ومناقشتهم، يقول : ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾. أي شيءٍ تعبدون دون الله جل وعلا ؟! ﴿أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ (4). ثم جاء سؤال يهز المشاعر، جاء سؤالٌ كبير، قال الله جل وعلا في بيان ذلك السؤال : ﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (5). أي شيء ظننتم بهذا الرب الذي له الأولَى والآخرة؟ له ما في السماوات وما في الأرض؟ له الحمد كله؟ كل شيء إليه صائر وعنه صادر جل وعلا ، فهو سبحانه وبحمده الأول الذي ليس قبله شيء , وهو جل وعلا الآخر الذي ليس بعده شيء , وهو سبحانه وبحمده الظاهر الذي ليس فوقه شيء , وهو الباطن الذي ليس دونه شيء , كيف عبدتم غيره ؟ ما ظنكم بهذا الرب الذي هذه صفاته ؟ أظننتم أنه يترككم تعظمون غيره ، وتصرفون العبادة لسواه ولا يعاقبكم على ذلك ، وهو جل وعلا قد أمركم بعبادته ، وفطركم على ألا تعبدوا سواه ، بل أخذ الميثاق عليكم وأنتم في ظهور آبائكم ألا تعبدوا إلا إياه جل وعلا ؟
ما ظنكم برب العالمين ؟ سؤالٌ كبير، يا له من سؤالٍ يرجف منه الفؤاد ويجل منه القلب . فما ظنكم برب العالمين ؟ سؤالٌ يستوقف كل سامع ليُشْهِدَهُ تقصيره في حق الرب العظيم الكريم الذي قال جل وعلا عن حقه وحال عباده مع هذا الحق : ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(1) .
﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(2) ما ظنك يا أخي بربك رب العالمين الذي له الملك كله، وله الحمد كله، الذي له خلق السماوات والأرض ؟ فهو الخالق لا خالق سواه، هو المالك لا مالك سواه، هو المدبر جل وعلا لهذا الكون ، فما من حركة ولا سكون إلا بأمره جل وعلا .
السَّمك في البحار ، والأشجار في البراري كلها تصدر عن أمره ، ولا يخفى عليه من شأنها شيء سبحانه وبحمده، ما ظنك بهذا الرب حتى عصيت أمره وخالفت شرعه؟ ما ظنك بهذا الرب حتى أعرضت عنه وعبدت سواه وصرفت العبادة لغيره ؟
﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يا له من سؤال !! ما ظنكم برب العالمين؟ سؤال ينبه العبد إلى عظيم قدر ربه , وأن ربه جل وعلا قد فاق كل غايةٍ في القدر والعلو والمكانة، سبحانه وبحمده هو العلي العظيم، له المثل الأعلى في السماوات والأرض جل وعلا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾(3)﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

فسبحان مـن لا يقـدر الـخلق قـدره ومن هو فوق العرش فردٌ مُوَحَّـدُ
مـليكٌ على عرش السماءِ مهيمنٌ لعزته تعـنو الوجـوهُ وتسجـدُ
وقد قال جل وعلا : ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ (4) .
﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. سؤال يبعث في القلب تعظيم الرب، كما أنه يبعث في القلب حسن الظن بالله الذي له الأمر كله جل وعلا، الذي لا يحسن العباد ولا يحصي العباد ثناءً عليه سبحانه وبحمده، هذا السؤال يبعث في القلب حسن الظن بالله جل وعلا، يبعث في القلب رجاء كل خيرٍ من قِبَلهِ .
قال يحيى بن معاذ رحمه الله : " أوثق الرجاء رجاء العبد بربه , وأحسن الظنون حسن الظن بالله تعالى " . ولذلك يستحضر المؤمن هذه المعاني في أحوال الضعف، كما أنه ينبغي أن تكون منه على بال في أحوال القوة لكنه ما أحوجه إلى استحضار ذلك في أحوال الضعف .
يقول أبو العتاهية في آخر شعره الذي قاله قبل موته :
إلهي لا تعذبني فإني
فمالي حيلةٌ إلا رجائي
مقرٌّ بالذي قد كان مني
لعفوك إن عفوت وحسن ظني

إن العبد يستصحب حسن الظن بالله تعالى إذا عرف قدر الرب.
﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. سؤالٌ أجب عليه بينك وبين نفسك، ما ظنك بربك ؟ ما هو فاعلٌ بك ؟ ما ظنك بربك وقد تركت حقه ؟ ما ظنك بربك وقد أقبلت عليه ؟ ما ظنك بربك الذي له الأولى والآخرة وله الحمد في السماوات والأرض وهو الحكيم الخبير ؟ ما ، قال فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ظنك بالله تعالى وقد قال النبي : (( يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبد بي )). تنبه واستمع إلى خطاب اللهالنبي جل وعلا وهو يخبر عباده بأمر عظيم: (( أنا عند ظن عبدي بي , وأنا معه إذا ذكرني: إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي )) رب العالمين يقول هذا لنا ويخاطبنا به كما نقل : (( وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه . وإذا تقرب إلي عبديرسول الله شبرًا تقربت إليه ذراعًا , وإذا تقرب ذراعًا تقربت إليه باعًا , وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة )). الله أكبر! ربُّ السماوات والأرض،بقدر ما تقبل عليه بقدر ما يكون لك، فبقدر ما معك من الظن بربك وحسن الأمل في ما عنده جل وعلا بقدر ما يكون الله جل وعلا لك .
سَل نفسك يا أخي، سل نفسك: ما ظنك برب العالمين ؟ وابحث عن جواب لهذا السؤال الكبير ، فإن الله تعالى عند ظن عبده به، من أحسن ظنه بالله تعالى فليبشر، فإن الله تعالى لا يخيب ظن من أحسن الظن به , ولا يخيب من رجاه وأمَّله .
أيها الأحباب: إن الله تعالى عند ظن عبده به، فهو جل وعلا يعاملك على حسب ظنك به سبحانه وتعالى ، فهو سبحانه يفعل بالعبد ما يتوقعه منه من الخير والشر ، فأحسن ظنك بالله , فكلما كان العبد حسن الظن بالله تعالى، حسن الرجاء فيما عنده، حسن الأمل في ربه جل وعلا كان الله له فيما أمَّله وفيما ظنه وفيما رجاه ، فهو جل وعلا لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى .
، ما أشبه كلامقال عبد الله بن مسعود - فقيه الصحابة وبليغهم - : " والذي لا إله غيره لا يعطى عبدٌ مؤمنٌ شيئًا قال ابن مسعود بكلام النبي خيرًا من حسن الظن بالله عز وجل , والذي لا إله غيره لا يحسن عبدٌ ظنه بالله عز وجل إلا أعطاه الله عز وجل ظنه، ذلك بأن الخير كله في يديه سبحانه وبحمده" .
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ
أدعوك ربِّ كما أمرت تضرعًا
فبمن يلوذُ ويستجيرُ المجرمُ؟
فإذا رددت يدِي فمن ذا يرحمُ؟


ربنا جل وعلا ذو فضلٍ وإحسان، وسعت رحمته كل شيء , وإن ذلك يوجب على العبد حسن الظن بالله تعالى .
إن إحسان الظن بالله تعالى أيها الأحباب من أوكد الفرائض , ومن أجلِّ الوجبات , وقد أمر الله تعالى عباده بأن يحسنوا الظن به سبحانه وبحمده، وذلك في مواضع عديدة، منها ما أمر الله تعالى به في قوله: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(1). قال عكرمة مولى ابن عباس , وهو من كبراء التابعين المفسرين للقرآن، قال في تفسير هذه الآية : أحسنوا الظن بالله. وذلك ترجمة لقول الله تعالى : ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ أحسنوا الظن بالله تعالى .
إِنَّ مما يدل على وجوب إحسان الظن بالله تعالى أن الله سبحانه وتعالى توعد الذين أساؤوا الظن به أشد وعيدٍ، فقال سبحانه وبحمده : ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ -ثم انظر عقوبة هؤلاء !! - عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾(2).
يقول ابن القيم : لم يأتِ عقاب ولا عذاب ولا وعيد في القرآن كما جاء في سوء الظن بالله تعالى , ولذلك قال جماعة من أهل العلم: إن أعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به سبحانه وبحمده .
إنَّ مما يدل على وجوب إحسان الظن بالله تعالى أيها الأحباب أن الله تعالى توعد الذين أساؤوا الظن به بالنار، كما أنه سجَّل عليهم الحكم فقال: إنهم كفار، قال الله سبحانه وبحمده: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ - أي ظن أن السماوات والأرض مخلوقة عبثاً لا غاية ولا هدف،هذا الظن يقول الله جل وعلا: - ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾(1).
يقول الإمام الشنقيطي - رحمه الله تعالى - صاحب أضواء البيان : " تدل هذه الآية على أًنَّ من ظن بالله تعالى ما لا يليق به جل وعلا فله النار، نعوذ بالله من الخُذلان " .
أيها الأحباب: إن من أدلة وجوب حسن الظن بالله تعالى ما جاء في قال - قبل موته بثلاث، أن النبي صحيح الإمام مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر -: (( بثلاثة أيام ، يقول قبل موت رسول الله لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه )). وهذا يفيد أيها الأحباب وجوب دوام حس الظن، فإن الإنسان ما يدري ولا يعلم : (( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربهمتى ينتهي أجله وينقضي عمره، فقوله )). يدل على وجوب دوام حسن الظن به سبحانه وبحمده، فإنه لا يتمكن العبد أن يحسن الظن بالله جل وعلا في ساعةٍ حرجة عند موته وقد أساء الظن به قبل ذلك، بل إن الأمر بحسن الظن بالله تعالى وعدم الموت إلا على هذه الحال دليلٌ على وجوب استصحاب حسن الظن به سبحانه وتعالى على كل حال ، فإنك على كل نفس يخرج منك لا تدري هل أنت على آخر أنفاسك ؟ أم بقي من أجلك شيء .
لما احتضر الإمام الشافعي رحمه الله كان في سياق الموت دخل عليه المزني- وهو من كبار تلاميذه , ومن أئمة الفقهاء- دخل على الشافعي رحمه الله , وهو على هذه الحال في حال الاحتضار،فقال له : " كيف أصبحت؟ " فقال رحمه الله : " أصبحت عن الدنيا راحلاً , وللإخوانِ مفارقًا , ولعملي ملاقيًا , وبكأس المنية شاربًا , وعلى الله واردًا . فلا أدري روحي تصير إلى الجنة فأُهنيها ، أم إلى النار فأُعزيها؟ ". ثم أنشأ أبياتًا فيها عظيم الرجاء وحسن الظن بربه، يقول رحمه الله :
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
ومازلت ذا عفوٍ عن الذنب لم تزل
جعلت الرجا مني لعفوك سلما
بعفوك ربي كان عفوك أعظما
تجود وتعفو منة وتكرما

جعلت الرجا مني لعفوك سلما : جعلت رجائي وحسن ظني بك سُلمًا لإدراك عفوك .
تعاظمني ذنبي : يعني الإنسان تذكر هذا الذنب العظيم الذي أثقل كاهله .
الله أكبر تتلاشى في جنب مغفرته وعفوه وبره الذنوب مهما عظمت: (( يا ابن آدم إنك لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لغفرت ما كان منك ولا أُبالي )).
إن مما يُعين على هذا الاستحضار لهذا المعنى في هذه الساعة الحرجة , وهو حسن الظن بالله تعالى -في دوام الحال , وعند الاحتضار خصوصًا- أن يذكر العبد سعة رحمة الله تعالى، إن من الناس من يذكر سعة رحمة الله فيكون حافزًا له على ألوان من المعصية، وهذا غلط ، فإن رحمة الله لا بد لها من تعرض، ولا بد لها من أسباب،وقد قال الله تعالى في رحمته: إنها قريبة من عباده المحسنين:﴿إن رحمت الله قريب من المحسنين﴾( ) .
أيها الأحباب: إن من السلف من كان إذا حضره الموت تذكر رحمة الله تعالى، وقال لمن حوله: ذكرونا بالرخص، ذكرونا برحمة الله تعالى، حتى يقبل على الله تعالى وقد أحسن ظنه بربه سبحانه وبحمده . قال:ويشهد لهذا المعنى ما رواه الترمذي وابن ماجه من طريق قتادة عن أنس بن مالك لهذا الشاب على شابٍّ وهو في الموت في حال الاحتضار، فقال رسول الله دخل النبي : (( كيف تجدُك ؟ )) يعني: ما هي حالك ؟ ما الذي في قلبك في هذه الساعة؟ (( فقال : والله يا رسول الله إني أرجو الله، وإني أخاف ذنوبي )). إني أرجو الله: أطمع فيما : (( لا يجتمعان في قلب عبد فيعنده وأحسن الظن به، وأخاف ذنوبي. فقال رسول الله مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمّنه مما يخاف)). ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
ما هو يا أحبابي معنى حسن الظن بالله سبحانه وتعالى ؟ إن معنى حسن الظن بالله هو رجاء كل خير من قبله سبحانه وبحمده . هو أن يؤمل العبد من ربه كل بر , وكل إحسان ، فهو رب كل نعمة، هو صاحب كل إحسان، هو صاحب كل سعة كما قال سبحانه وبحمده : ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾( ) هو المؤمل في تحصيل المطالب , وهو المؤمل في كشف كل كربةٍ وكل خوفٍ .
يا من ألوذ به فيما أؤمله
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره ومن أعوذ به فيما أحاذره
ولا يهيضون عظمًا أنت جَابِرُهُ

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
قال تعالى : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (3) سورة يوسف
نحن نقصُّ عليك -أيها الرسول- أحسن القصص بوحينا إليك هذا القرآن، وإن كنت قبل إنزاله عليك لمن الغافلين عن هذه الأخبار، لا تدري عنها شيئًا. (1)
وجعل هذا القَصص أحسن القصص لأنّ بعض القصص لا يخلو عن حسن ترتاح له النفوس . وقصص القرآن أحسن من قصص غيره من جهة حسن نظمه وإعجاز أسلوبه وبما يتضمّنه من العبر والحكم ، فكلّ قصص في القرآن هو أحسن القصص في بابه ، وكلّ قصة في القرآن هي أحسن من كلّ ما يقصّه القاصّ في غير القرآن . وليس المراد أحسن قصص القرآن حتى تكون قصّة يوسف عليه السّلام أحسن من بقيّة قصص القرآن كما دلّ عليه قوله : بما أوحينا إليك هذا القرآن } .
فإنّ القصص الوارد في القرآن كان أحسن لأنّه وارد من العليم الحكيم ، فهو يوحي ما يعلم أنّه أحسن نفعاً للسّامعين في أبدع الألفاظ والتراكيب ، فيحصل منه غذاء العقل والروح وابتهاج النفس والذّوق ممّا لا تأتي بمثله عقول البشر . (2)
وهذه القصة التي سوق نتكلم عنها تمثل جانباً مهماً من جوانب الصراع بين الحق والباطل ، بين الخير والشر ، وهو الذي يجب أن يعرفه أصحاب الدعوة ، في كل زمان ومكان ، ذلك لأن أهل الباطل يعادون الحق ، ويحاربونه على كل الأصعدة ، ولا يحبون أن ينتشر بين الناس ، حتى لا تكشف أوراقهم ، وتفضح أراجيفهم ، لأنهم جميعاً بلا استثناء يمثلون مقولة فرعون الذي استبعد قومه قال تعالى : {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} (29) سورة غافر .
والناس في الأغلب يميلون مع القوي ، الذي يغريهم بالمال والمتاع والشهوات أو يلوِّحُ لهم بالعصا { فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) } [الشعراء : 41 - 52]
ولكن في نهاية المطاف سوف ينتصر الحق على الباطل ،قال تعالى : { قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (12) سورة آل عمران
فإلى القرآن الكريم وعطائه المتدفق الذي لا ينتهي .
وأما طريقة عملي في هذا الكتاب فهي كما يلي :
فقد قسمته لمباحث على الشكل التالي :
المبحث الأول-أَغْرَاض اَلْقِصَّة في القرآن الكريم
المبحث الثاني-قصة أصحاب القرية
شرح الكلمات,المناسبة,المعنى العام,التفسير والبيان ,ومضات عامة,ما ترشد إليه الآيات
المبحث الثالث-قطوف تربوية حول قصة أصحاب القرية .
المبحث الرابع-الإعجاز البياني في مثل أصحاب القرية الذين كذبوا المرسلين
وقد اعتمدت على أمهات كتب التفسير القديمة والحديثة ، وكتب الحديث وغيرها .
ووضعته في الشاملة 3 وفهرسته فيها ، وغيرت الآيات لتكون بالرسم العادي .
قال تعالى : {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (62) سورة آل عمران
أسال الله تعالى أن ينفع به جامعه وناشره والدال عليه في الدارين وأن يكون القرآن حجة لنا لا حجةً علينا .---------------------------------------------------------------------------------------------
و هكذا سعى الأنبياء السابقون على موسى .. كم كان عددهم .. لا يعلمهم الا الله ، ولكن قصصهم واحدة ، و قد جرت ضمن الفصول التالية :

ألف : جاؤوا بالبينات الواضحة .

[ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح و عاد و ثمود و الذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات ]لقد وفر الله للبشر نور العقل و هو يكفيه حجة بأدنى تذكرة . بيد ان ربنا أتم حجته عليهم بالحجج الواضحة التي لا ينكرها الا المعاندون .

باء : أما الناس فقد ردوا ايديهم و وضعوها في أفواههم اشارة الى ضرورة السكوت ، كما يفعل من لا يريد الكلام فيجعل يده على فمه ليقول للآخر : افعل هكذا و اسكت ، و هؤلاء لم يكتفوا بطلب السكوت من الأنبياء بل اشاروا و الى ذلك بايديهم أيضا توغلا في العناد ،و ليبقى عملهم شاهدا على أنهم اساسا لم يستمعوا الى القول فكيف بقوله .

[ فردوا أيديهم في أفواههم ]

قال بعضهم : إن الناس ردوا أيدي الرسل الى أفواه الرسل لاسكاتهم أو ردوا أيديهم هم الى أفواه الرسل لاسكاتهم .

[ و قالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به ]

و كفــرهم سبق شكهم . لأنهم قرروا الكفر عنادا ، ثم ارتابوا بعدئذ ، كما جاء في الحديث :

" لا تجعلوا علمكـم جهــلا ، و يقينكم شكا . اذا علمتم فاعملوا ، و اذا يقنتم فاقدمــــوا "[ و إنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ]

[10] جيم : أما الرسل فقد ربطوا بين رسالتهم و بين الذي اوحى بها و هو الله ، و بدأوا من نقطة البداية قائلين : أفي الله شك ؟! فمن اذا خالق السماوات و الأرض و فاتقهما بعد ان كانتا رتقا ؟!


قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات و الأرض ]

و اذا أنتفى الشك في الله ، فان كل شك و ريب آخر في الرسالة سيكون باطلا ، لأنه هو الذي بعث بالرسل ، و اظهر على ايديهم المعاجز .

دال : و بعد ان عالجوا المشكلة العقلية عندهم بتذكرتهم بفاطر السموات و الأرض و بأنه لا شك فيه لأنه وجداني . بعدئذ أخذوا يعالجون السبب الحقيقي لكفرهم و هو مشكلتهــم النفسية ، و أثاروا فيهم حبهم لأنفسهم فقالوا : ربكم يدعوكم برسالاته لمصلحتكم .

[ يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ]

و لنا ان نتساءل : لماذا لا يغفر ربنا كل الذنوب ؟

أولا : ان بعض الذنوب يأتي بها العبد تكبرا و عنادا ، ففي الحديث :

" قــــــد يرى اللــه عبده عـــلى ذنب فيقــــول لــه : افعـــل ما شئت فانــي لا أغفر لك ابـــدا "ثانيـــا : ان بقاء بعض الذنوب سيف مسلط على غرور البشر ، و أمنه من كيد الله ، و عجبه بذاته لكي يبقيه ابدا بين الخوف و الرجاء .

[ و يؤخركم إلى اجل مسمى ]

ذلك لان دعوة الأنبياء ليست من أجل اخلاد البشر في نعم الدنيا التي لا تبقى ، و هم لا يبقون لها ، بل من اجل توفير الفرصة له ليستمر الى آخر اجله المحدد له سلفا ، و الا تنزل عليه الكوارث فتبيده قبل حلول أجله .

[ قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا ]


و كيف نقبل بولايتكم علينا ام كيف يخصكم الله بالرسالة من دوننا ، و كان من ضعف ثقتهم بانفسهم كبشر انهم لم يصدقـوا أنفسهم ان يبعث الله اليهم بشرا رسـولا .

هاء : ثــــــــــم قالوا إن تعاليمكــم مخالفة لتقاليدنا التي ورثناها من آبائنا و تعودنا عليهـــا .

[ تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ]

واو : فطالبوهم بحجة أقوى من مجرد التذكرة ، بحجة مادية مثل احياء الموتى و تفجير ينابيع الأرض ذهبا ، و العروج الى السماء ، ليضطروا الى الايمان ، و لم يكتفوا بهدى عقولهم ، و لم يقاوموا ضغط التقاليد بارادة التحرر منها لذلك قالوا :

[ فأتونا بسلطان مبين ]

[11] زاء : و اعترف الرسل بأنهم بشر ، لا يتميزون عن غيرهم سوى الوحي الذي هو مضاف الى شخصياتهم ، و ليس جزء منها .

[ قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ]

و هذا التأكيد القرآني جزء من دعوة الرسل ، و دليل صدق على انهم لم يجعلوا الإفتراء على الله وسيلة للمكاسب المادية ، و لا يريدون ذلك و لا يسمح لهم ربهم بذلك أبدا .

[ و لكن الله يمن على من يشاء من عباده ]

بالرسالة ، و بقدر ما يمن الله يصبح الرسول عظيما ، لذلك لا يملك الرسول قدرة الإيتاء بالآيات الجديدة حسب رغباته .


[ و ما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بأذن الله ]

و الأهم من ذلك اننا نعتمد على الله في تبليغ الرسالة و حتى دعوتنا لكم ليست بقوانا الذاتيـــة ، و لا بحسب قدراتنا الخاصة عندما نقوم على أمر ، بل بقوة الله و قدرته المطلقة .

[ و على الله فليتوكل المؤمنون ]

[12] التوكل على الله عند الأنبياء و المؤمنين بهم أصدق شاهد على انهم من قبل الله لماذا ؟ لما يلي :

أولا : حب الذات و الحفاظ على المصالح ، فطرة بشرية راسخة في اعماق ذات كل انسان ، و لا يمكن لأحد الا لمجنون ان يعرض نفسه للخطر ، لمجموعة أوهام و خرافات لا تؤمن بها يمكن ان تكذب لتحصل على مصلحة أما ان تكذب لتحصل على صفعة ، فمستحيل الا اذا كنت مجنونا.

ثانيا : يختلف الفرد الذي يتحرك في الناس بقدراته الذاتية عمن هو مدعوم من قبل قوة أخرى . فسلوك الموظف او الشرطي أو الجاسوس او المنتمي الى حزب قوي يختلف كثيرا عن سلوك الفرد العادي . و الرسل عليهم السلام كانوا يقدمون بلا حساب على المخاطر و هم واثقون بالنصر . أو ليس هذا دليل على أنهم قد بلغوا الحقيقة . و لذلك ربطوا بين التوكل الظاهر في ابعاد حياتهم ، و بين الهدى الذي رزقهم الله اياه ، فهم عرفوا الحق و لذلك ضحوا من أجله .

[ و ما لنا ألا نتوكل على الله و قد هدانا سبلنا ]

و كانوا يتحملــون الصعاب فــي طريق رسالتهم كدليل على انهم واثقون من طريقهــم .


[ و لنصبرن على ما آذيتمونا و على الله فليتوكل المتوكلون ]من شاء أن يعتمد على شيء فليعتمد على الله الذي لا يخيب أمل من توكل عليه ، فهو اذا حقيق بان يتوكل عليه المتوكلون

0 comments:

Post a Comment